الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)}.فيه مسائل:المسألة الأولى:العامل في {إِذْ} ما قبلها أو ما بعدها فيه وجهان، فإن قلنا ما قبلها ففيه احتمالان: أظهرهما {رَّءاهُ} [النجم: 13] أي رآه وقت ما يغشى السدرة الذي يغشى، والاحتمال الآخر العامل فيه الفعل الذي في النزلة، تقديره رآه نزلة أخرى تلك النزلة وقت ما يغشى السدرة ما يغشى، أي نزوله لم يكن إلا بعد ما ظهرت العجائب عند السدرة وغشيها ما غشى فحينئذ نزل محمد نزلة إشارة إلى أنه لم يرجع من غير فائدة، وإن قلنا ما بعده، فالعامل فيه {مَا زَاغَ البصر} [النجم: 17] أي ما زاغ بصره وقت غشيان السدرة ما غشيها، وسنذكره عند تفسير الآية.المسألة الثانية:قد ذكرت أن في بعض الوجوه {سِدْرَةِ المنتهى} هي الحيرة القصوى، وقوله: {يغشى السدرة} على ذلك الوجه ينادي بالبطلان، فهل يمكن تصحيحه؟ نقول يمكن أن يقال المراد من الغشيان غشيان حالة على حالة، أي ورد على حالة الحيرة حالة الرؤية واليقين، ورأى محمد صلى الله عليه وسلم عندما حار العقل ما رآه وقت ما طرأ على تلك الحالة ما طرأ من فضل الله تعالى ورحمته، والأول هو الصحيح، فإن النقل الذي ذكرنا من أن السدرة نبقها كقلال هجر يدل على أنها شجرة.المسألة الثالثة:ما الذي غشى السدرة؟ نقول فيه وجوه الأول: فراش أو جراد من ذهب وهو ضعيف، لأن ذلك لا يثبت إلا بدليل سمعي، فإن صح فيه خبر فلا يبعد من جواز التأويل، وإن لم يصح فلا وجه له الثاني: الذي يغشى السدرة ملائكة يغشونها كأنهم طيور، وهو قريب، لأن المكان مكان لا يتعداه الملك، فهم يرتقون إليه متشرفين به متبركين زائرين، كما يزور الناس الكعبة فيجتمعون عليها الثالث: أنوار الله تعالى، وهو ظاهر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إليها تجلى ربه لها، كما تجلى للجبل، وظهرت الأنوار، لكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت، فجعل الجبل دكًا، ولم تتحرك الشجرة، وخر موسى صعقًا، ولم يتزلزل محمد الرابع: هو مبهم للتعظيم، يقول القائل: رأيت ما رأيت عند الملك، يشير إلى الإظهار من وجه، وإلى الإخفاء من وجه.المسألة الرابعة:{يغشى} يستر، ومنه الغواشي أو من معنى الإتيان، يقال فلا يغشاني كل وقت، أي يأتيني، والوجهان محتملان، وعلى قول من يقول: الله يأتي ويذهب، فالإتيان أقرب.{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)} وفيه مسائل:المسألة الأولى:اللام في {البصر} يحتمل وجهين أحدهما: المعروف وهو بصر محمد صلى الله عليه وسلم، أي ما زاغ بصر محمد، وعلى هذا فعدم الزيغ على وجوه، إن قلنا الغاشي للسدرة هو الجراد والفراش، فمعناه لم يتلفت إليه ولم يشتغل به، ولم يقطع نظره عن المقصود، وعلى هذا فغشيان الجراد والفراش يكون ابتلاء، وامتحانًا لمحمد صلى الله عليه وسلم.وإن قلنا أنوار الله، ففيه وجهان أحدهما: لم يلتفت يمنة ويسرة، واشتغل بمطالعتها وثانيهما: ما زاغ البصر بصعقة بخلاف موسى عليه السلام، فإنه قطع النظر وغشي عليه، وفي الأول: بيان أدب محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الثاني: بيان قوته الوجه الثاني: في اللام أنه لتعريف الجنس، أي ما زاغ بصر أصلًا في ذلك الموضع لعظمة الهيبة، فإن قيل لو كان كذلك لقال ما زاغ بصر، لأنه أدل على العموم، لأن النكرة في معرض النفي تعم، نقول هو كقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} [الأنعام: 103] ولم يقل لا يدركه بصر.المسألة الثانية:إن كان المراد محمدًا، فلو قال ما زاغ قلبه كان يحصل به فائدة قوله: {مَا زَاغَ البصر}؟ نقول لا، وذلك لأن من يحضر عند ملك عظيم يرى من نفسه أنه يهابه ويرتجف إظهارًا لعظمته مع أن قلبه قوي، فإذا قال: {مَا زَاغَ البصر} يحصل منه فائدة أن الأمر كان عظيمًا، ولم يزغ بصره من غير اختيار من صاحب البصر.المسألة الثالثة:{وَمَا طغى} عطف جملة مستقلة على جملة أخرى، أو عطف جملة مقدرة على جملة، مثال المستقلة: خرج زيد ودخل عمرو، ومثال مقدرة: خرج زيد ودخل، فنقول الوجهان جائزان أما الأول: فكأنه تعالى قال عند ظهور النور: ما زاغ بصر محمد صلى الله عليه وسلم، وما طغى محمد بسبب الالتفات، ولو التفت لكان طاغيًا وأما الثاني: فظاهر على الأوجه، أما على قولنا: غشي السدرة جراد فلم يلتفت إليه {وَمَا طغى} أي ما التفت إلى غير الله، فلم يلتفت إلى الجراد، ولا إلى غير الجراد سوى الله.وأما على قولنا غشيها نور، فقوله: {مَا زَاغَ} أي ما مال عن الأنوار {وَمَا طغى} أي ما طلب شيئًا وراءها وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال: {ما زاغ وما طغى}، ولم يقل: ما مال وما جاوز، لأن الميل في ذلك الموضع والمجاوزة مذمومان، فاستعمل الزيغ والطغيان فيه، وفيه وجه آخر وهو أن يكون ذلك بيانًا لوصول محمد صلى الله عليه وسلم إلى سدرة اليقين الذي لا يقين فوقه، ووجه ذلك أن بصر محمد صلى الله عليه وسلم {مَا زَاغَ} أي ما مال عن الطريق، فلم ير الشيء على خلاف ما هو عليه، بخلاف من ينظر إلى عين الشمس مثلًا، ثم ينظر إلى شيء أبيض، فإنه يراه أصفر أو أخضر يزيغ بصره عن جادة الأبصار {وَمَا طغى} ما تخيل المعدوم موجودًا فرأى المعدوم مجاوزًا الحد.{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)}.وفيه مسائل:المسألة الأولى:فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم، رأى ليلة المعراج آيات الله، ولم ير الله، وفيه خلاف ووجهه: هو أن الله تعالى ختم قصة المعراج هاهنا برؤية الآيات، وقال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} إلى أن قال: {لِنُرِيَهُ مِنْ ءاياتنا} [الإسراء: 1] ولو كان رأى ربه لكان ذلك أعظم ما يمكن، فكانت الآية الرؤية، وكان أكبر شيء هو الرؤية، ألا ترى أن من له مال يقال له: سافر لتربح، ولا يقال: سافر لتتفرج، لما أن الربح أعظم من التفرج.المسألة الثانية:قال بعض المفسرين {لَقَدْ رأى مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى} وهي أنه رأى جبريل عليه السلام في صورته، فهل هو على ما قاله؟ نقول الظاهر أن هذه الآيات غير تلك، وذلك لأن جبريل عليه السلام وإن كان عظيمًا، لكن ورد في الأخبار أن لله ملائكة أعظم منه، والكبرى تأنيث الأكبر، فكأنه تعالى يقول: رأى من آيات ربه آيات هن أكبر الآيات، فإن قيل قال الله تعالى: {إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر} [المدثر: 35] مع أن أكبر من سقر عجائب الله، فكذلك الآيات الكبرى تكون جبريل وما فيه، وإن كان لله آيات أكبر منه نقول سقر إحدى الكبر أي إحدى الدواهي الكبر، ولا شك أن في الدواهي سقر عظيمة كبيرة، وأما آيات الله فليس جبريل أكبرها ولأن سقر في نفسها أعظم وأعجب من جبريل عليه السلام فلا يلزم من صفتها بالكبر صفتها بالكبرى.المسألة الثالثة:(الكبرى) صفة ماذا؟ نقول فيه وجهان أحدهما: صفة محذوف تقديره: لقد رأى من آيات ربه الآية الكبرى، ثانيهما: صفة آيات ربه وعلى هذا يكون مفعول رأى محذوفًا تقديره رأى من الآيات الكبرى آية أو شيئًا. اهـ.
.قال القرطبي: قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} أي لم يكذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج؛ وذلك أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده حتى رأى ربه تعالى وجعل الله تلك رؤية.وقيل: كانت رؤية حقيقة بالبصر.والأوّل مرويّ عن ابن عباس.وفي صحيح مسلم أنه رآه بقلبه.وهو قول أبي ذرّ وجماعة من الصحابة.والثاني قول أنس وجماعة.وروي عن ابن عباس أيضًا أنه قال: أتعجبون أن تكون الخُلّة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم.وروي عن ابن عباس أيضًا أنه قال: أما نحن بني هاشم فنقول إن محمدًا رأى ربه مرتين.وقد مضى القول في هذا في (الأنعام) عند قوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} [الأنعام: 103].وروى محمد بن كعب قال: قلنا يا رسول الله صلى الله عليك رأيت ربك؟ قال: «رأيته بفؤادي مرتين» ثم قرأ: {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى}.وقول: ثالث أنه رأى جلاله وعظمته؛ قاله الحسن.وروى أبو العالية قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: «رأيت نهرًا ورأيت وراء النهر حجابًا ورأيت وراء الحجاب نورًا لم أر غير ذلك» وفي صحيح مسلم عن أبي ذرّ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: «نورٌ أَنَّى أراه» المعنى غلبني من النور وبهرني منه ما منعني من رؤيته.ودلّ على هذا الرواية الأخرى «رأيت نورًا».وقال ابن مسعود: رأى جبريل على صورته مرتين.وقرأ هشام عن ابن عامر وأهل الشام {مَا كَذَّبَ} بالتشديد أي ما كذَّب قلبُ محمد ما رأى بعينه تلك الليلة بل صدّقه.ف {ما} مفعوله بغير حرف مقدّر؛ لأنه يتعدّى مشدّدًا بغير حرف.ويجوز أن تكون {ما} بمعنى الذي والعائد محذوف، ويجوز أن يكون مع الفعل مصدرًا.الباقون مخففًا؛ أي ما كذب فؤاد محمد فيما رأى؛ فأسقط حرف الصفة.قال حسان رضي الله عنه:أي في الذي حدّثتِنِي.ويجوز أن يكون مع الفعل مصدرًا.ويجوز أن يكون بمعنى الذي؛ أي ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم الذي رأى.قوله تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ على مَا يرى} قرأ حمزة والكسائي {أَفَتَمْرُونَهُ} بفتح التاء من غير ألف على معنى أفتجحدونه.واختاره أبو عبيد؛ لأنه قال: لم يماروه وإنما جحدوه.يقال: مراه حقه أي جحده ومريته أنا؛ قال الشاعر: أي جحدته.وقال المبرّد: يقال مراه عن حقه وعلى حقه إذا منعه منه ودفعه عنه.قال: ومثل على بمعنى عن قول بني كعب بن ربيعة: رضي الله عليك؛ أي رضي عنك.وقرأ الأعرج ومجاهد {أَفَتُمْرُونَهُ} بضم التاء من غير ألف من أمريت؛ أي تريبونه وتشككونه.الباقون {أَفَتُمَارُونَهُ} بألف، أي أتجادلونه وتدافعونه في أنه رأى الله؛ والمعنيان متداخلان؛ لأن مجادلتهم جحود.وقيل: إن الجحود كان دائمًا منهم وهذا جدال جديد؛ قالوا: صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عِيرنا التي في طريق الشام.على ما تقدّم.قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى} {نَزْلَةً} مصدر في موضع الحال كأنه قال: ولقد رآه نازلًا نزلةً أخرى.قال ابن عباس: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه مرة أخرى بقلبه.روى مسلم عن أبي العالية عنه قال: {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى} قال: رآه بفؤاده مرتين؛ فقوله: {نَزْلَةً أخرى} يعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان له صعود ونزول مرارًا بحسب أعداد الصلوات المفروضة، فلكل عَرْجة نَزْلة.وعلى هذا قوله تعالى: {عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} أي ومحمد صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى وفي بعض تلك النزلات.وقال ابن مسعود وأبو هريرة في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى} أنه جبريل.ثبت هذا أيضًا في صحيح مسلم.وقال ابن مسعود: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «رأيت جبريل بالأفق الأعلى له ستمائة جناح يتناثر من ريشه الدر والياقوت» ذكره المهدوي.قوله تعالى: {عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} {عِنْدَ} من صلة {رَآهُ} على ما بينا.والسِّدْر شجر النَّبِق وهي في السماء السادسة، وجاء في السماء السابعة.والحديث بهذا في صحيح مسلم؛ الأوّل ما رواه مُرَّة عن عبد الله قال: لما أُسْرِيَ برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سِدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، قال: {إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى} قال: فراش من ذهب، قال: فأعطي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغُفِر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئًا المقحِمات.الحديث الثاني رواه قتادة عن أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لما رُفعتُ إلى سِدرة المنتهى في السماء السابعة نَبِقها مثل قِلال هَجَر وورقها مثل آذان الفِيَلة يخرج من ساقها نهران ظاهران ونهران باطنان قلت يا جبريل ما هذا قال أما الباطنان ففي الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات» لفظ الدَّارَقُطْني.والنَّبِق بكسر الباء: ثمر السِّدْر الواحد نَبِقة.ويقال: نَبْق بفتح النون وسكون الباء؛ ذكرهما يعقوب في الإصلاح وهي لغة المصريين، والأولى أفصح وهي التي ثبتت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.وروى الترمذيّ عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وقد ذُكِر له سِدْرة المنتهى قال: «يسير الراكب في ظل الغصن منها مائة سنة أو يستظل بظلها مائة راكب شك يحيى فيها فَرَاش الذهب كأن ثمرها القِلال» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.
|